بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
من المعلوم أن الإنسان مجبول على حب الثراء والغنى والتملك وكثرة العرض والمتاع، مهما كانت طبيعته وديانته، ومستواه وثقافته، يقول الله تعالى: ﴿إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا﴾، فهو دائما يقول :هات، وإذا قيل له: أعط لصاحب الحق حقه، يكون منوعا لذلك الحق لما جبل عليه من الأثرة وحب الذات.1
بيد أن المؤمن كان طمعه أعظم وحرصه أكبر، لذلك تجده لا يبالي بعرض من الدنيا قليل، ولا يلتفت إلى الفاني من متاعها، وإنما يرمق ببصره إلى أبعد من ذلك، ويتخذ دنياه زادا لآخرته، فيتجر مع الله تعالى، ويستثمر أمواله في سوق الجنة التي لا يحيق بها الكساد، والتجارة مع الله تعالى تجارة لن تبور، يقول الله تعالى:﴿إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ﴾.2
إذن فالمؤمن أكثر حرصا على التجارة التي لا تبور، وأعظم طمعا في أجر لا يأتي عليه الفناء؛ ولذلك اتخذ وجهة خالدة، ونزل سوقا رائجة، وقدم بضاعة نافقة، فاتجر مع الله تعالى الذي ضمن له الربح المضاعف.
تلك هي قصة الاستثمار مع الله تعالى الذي وعد عباده المؤمنين بتجارة لن تبور، ووعدهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، بمضاعفة الأجر حتى يصير مقدارا ضخما لا يخطر على بال، يقول صلى الله عليه وسلم: ﴿من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل﴾.3
هكذا يضع المؤمن ماله حيث يضمن حفظه في يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، ليس هذا فحسب بل يربيها أي ينميها له تنمية لا تتوقع من ورائها الخسارة أو الكساد، ويربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، والفلو الفرس الصغير والفصيل الجمل الصغير، فكما يكون الإنسان متعهدا لفرسه وجمله في صغرهما حريصا على سلامتهما ونموهما، كذلك يربي الله عز وجل، وله المثل الأعلى، صدقة المؤمن، مهما قلت وصغرت، كالتمرة وشبهها، حتى تكبر ويعظم شانها.
وفي استعمال النبي صلى الله عليه وسلم لكلمة: يربيها، بلاغة رفيعة وترغيب عجيب، فلفظ التربية يجمع جميع معاني الرعاية والحفظ والسهر على سلامة المربَّى والعناية به.
وأبواب الاستثمار مع الله تعالى كثيرة، منها الصدقة والهبة ورعاية اليتامى وتفقد أحوال الضعفاء إلى غير ذلك من أبواب التبرعات ووجوه البر.
وأعظمها شأنا وأجلها قدرا وأطولها أمدا الوقف في سبيل الله، وهو، وإن كان دخل في عموم الصدقة، فإنه صدقة جارية دائمة النفع تدر على صاحبها على مر الأزمان.
وللوقف في الإسلام شأن عظيم ودور جسيم، فبالوقف بنيت المساجد والمعاهد، وأنشئت المكتبات والمراكز العلمية، وبالوقف بلغ التكافل الاجتماعي والتضامن والرعاية الصحية مبلغا عظيما في المجتمعات الإسلامية، وبالوقف تعلم العلم وحفظ القرآن، وبالوقف اتسعت الفتوحات الإسلامية... إلى غير ذلك من الأدوار المنوطة بالوقف عبر تاريخ الإسلام إلى يوم الناس هذا.
ومن هنا نهيب بالمؤمنين ذوي الأريحية والسخاء أن يولوا هذا الباب من أبواب الاتجار مع الله تعالى ما يستحق، فكل مال العبد يصبح غداة موته في ملكا للآخرين من الورثة وغيرهم، إلا الوقف في سبيل الله فهو ما يزال يدر على صاحبه بعد موته، ويضيف إلى حسناته أضعافا مضاعفة من الأجر والثواب، ويصله ريعه الحقيقي على الدوام، مهما طال الزمان وتتابع الملوان، لأن للوقف ريعين: ريعا يستغله الموقوف عليهم، وهو منفعة ذلك الوقف من ثمر وسكنى وغير ذلك، وريعا يصل صاحبه على الدوام، وهو ثوابه وأجره.
أليس هذا هو الخلود الذي يبحث عنه الإنسان، والغنى الذي جبل على حبه، والتكاثر فيه، مع ضمان الربح والسلامة من الإثم؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له﴾4.
وروى مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: ﴿ أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِى مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِى بِهِ قَالَ « إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا ». قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُبْتَاعُ وَلاَ يُورَثُ وَلاَ يُوهَبُ. قَالَ فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِى الْفُقَرَاءِ وَفِى الْقُرْبَى وَفِى الرِّقَابِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ﴾.5
وفي هذا الحديث عظة بليغة، فعمر رضي الله عنه، يريد أن يستثمر في أنفس مال وجده، ولم يكن لديه أنفس منه، ولا أحبه وأعجبه إليه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يفعل فيه، وسؤاله هذا سؤال كل ذي مال، أين يضع ماله ليجده عند الحاجة أعظم نفعا، وأكثر ذخرا، فندبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقفه لينتفع بغلاته وريعه، وهكذا يكون هذا المال دائم النفع لصاحبه ولا ينقطع ثوابه وأجره بموته.
ولله در العلامة جلال الدين السيوطي حيث نظم الأمور التي تصل صاحبها بعد موته فقال:
عليه من فعال غيـــر عــشـــر |
إذا مات ابن آدم ليس يجــري |
وغرس النخل والصدقات تجري |
علوم بثها ودعــاء نجــــــــــل |
وحفر البئر أو إجــــراء نهــــــــر |
وراثة مصحف وربـــــاط ثغــــر |
إليه أو بناء محـــــل ذكــــــــــر |
وبيت للغريب بنــــــاه يــــأوي |
فخذها من أحـــــاديث بحصــر 6 |
وتعلــــيم لقـــرآن كــــريـــــم |
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
-----------------------------------------------------------------------
1 - : المعارج 19ـ21
2- فاطر 29
3- : صحيح البخاري 5/365 وصحيح مسلم 6/332.
4- :صحيح مسلم كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 5/73.
5-: صحيح مسلم كتاب الوصية باب الوقف، 5/73.
6-: حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج ج5/ص358.