لقد عرفت العديد من الشعوب القديمة بعض أشكال الوقف، تبعا لحاجيات المجتمع، بحيث وجدت دور وأمكنة للعبادة، وخصصت أراض و مبان أريد بها تقديم منافع للناس (مندر قحف، الوقف الإسلامي، 200، ص: 17)، لذا، فالوقف معروف عند أمم سابقة قبل ظهور الإسلام كما هو الحال عند البابليين، والرومان وغيرهم، وإن كان لم يسم بهذا الاسم (تاريخ الوقف عند المسلمين، أحمد بن صالح العبد السلام، ص : 16).
لذلك، ففكرة الوقف التي يراد في فحواها حبس العين عن التملك، ورصد منافعها لجهة معينة، تعد في ذاتها فكرة متجدرة في القدم، وقبل ظهور الإسلام (محمد عبيد الكبيسي، أحكام الوقف في الشرعة الإسلامية، 1977، ص : 22) ومن الأوقاف الذي اشتهرت به العرب قبل الإسلام، الوقف على الكعبة المشرفة لعمارتها وكسوتها، فكان أول من كساها ووقف عليها أسعد أبو كريب ملك حمير (مقدمة إبن خلدون،3-842)، لكن إذا كان لايمكن إنكار هذه الحقائق التاريخية، إلا أن البون يبنها وبين غاية الوقف في الإسلام تتكشف من خلال أن أحباس في الجاهلية كان يتوخى من خلالها التفاخر، خلافا لأوقاف المسلمين، فالأصل فيها هو التقرب لله تعالى ونيل مرضاته (محمد عبيد الكبيسي، أحكام الوقف في الشرعة الإسلامية، م، س، ص: 22).
وعلى كل، فإن كنا هنا لسنا بصدد رصد المسار التاريخي لمؤسسة الوقف بإعمال "منهج التأريخ"، ولكن نروم فقط إثبات الأهمية الدينية والاجتماعية لهذه المؤسسة حسب تطور المجتمعات، ونظرتها للغاية والوظيفة التي أريد لها.
ولا جرم أن بحث تاريخ الوقف عند المسلمين تحديدا من الأمور التي خاض فيها العديد من الباحثين، اتسمت بالغزارة، غزارة الوقف في ذاته، حيث أكد العديد منهم أن الوقف عرف في حياة الرسول، الذي كان أجود الناس، وأخيرهم (أنظر الطبقات، لإبن سعد، 1/ 188)، ونحى منحاه الصحابة الأخيار، فتجسد ذلك في "وقف عمر بن الخطاب" و "وقف عثمان بن عفان"، و"وقف طلحة" و"خالد بن الوليد" وغيرهم كثير ممن ساروا على السمط والنهج القويم ابتغاء مرضاة الله تعالى.
هذا، وقد ذكر الخصاف على أن محمد بن عبد الرحمن عن سعد بن زراة قال: "ما أعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر من المهاجرين والأنصار، إلا وقد وقف من ماله حبسا، لا يشترى، ولا يورث ولا يوهب، حتى يرث الله الأرض ومن عليها " (أحكام الأوقاف للخصاف الطبعة الأولى ، ص : 15 .(
لكن مع اتساع الديار الإسلامية، وتطور المجتمع الإسلامي، تنامت بالضرورة حاجات الناس، فكان من نتائجه تزايد حجم الأوقاف، لذلك فقد عد عصر الخلفاء الراشدون أفضل العصور بعض عصر النبوة في هذا المجال، واستمر هذا الحال في العهد الأموي، فتزايدت الأوقاف ومآلات إنفاقها، الأمر الذي أدى إلى إنشاء ديوان مستقل له عن بقية الدواوين، تحت إشراف قاض، يتولى لأول مرة تسجيل الأحباس في سجل خاص حماية لمصالح المستحقين لها.
ومند ذلك الحين أصبحت الأوقاف تابعة للقضاة يحفظون أصولها، ويرعونها، ويشرفون على وجوه صرفها (محمد عبيد الكبيسي، أحكام الوقف في الشرعة الإسلامية، م، س، ص: 38،39 )، ويعتبر هذا الديوان أول تنظيم للأوقاف من نوعه، ليس فقط في مصر، بل في كافة الدول الإسلامية (علي، محمد محمد أمين، تاريخ الأوقاف في مصر في عصر سلاطين المماليك (1250 -1517م)، جامعة القاهرة، كلية الآداب، 1972،ج 1 ص: 49).
ومن الأثر الحضاري للوقف في العصر الأموي يتمثل في قبة الصخرة، ذلك أن الخليفة عبد الملك بن مروان سعى إلى إقامة بناء يعتز به المسلمون قاطبة في سائر الأصقاع الإسلامية (توفيق أحمد عبد الجواد، تاريخ العمارة والفنون الإسلامية، الطبعة الثانية 1970، ص: 293).
وإلى جانب الخلفاء الأمويين، لم يتخلف أيضا العباسيون على إيلاء اهتمام خاص بالأوقاف، وتنميتها وتنويعها، إذ لم يقتصر على الفقراء والمساكين، وطلبة العلم فحسب، بل تعداه إلى إنشاء المكتبات والمصحات، ودور لسكن المعوزين (تاريخ الوقف عند المسلمين، أحمد بن صالح العبد السلام، ص:3)، وفي عهدهم أيضا كانت تتم إدارته بواسطة رئيس سمي " صدر الوقوف"، أنيط به مهمة الإشراف عليه، مع تمتيعه بصلاحية تعيين أعوان إلى جانبه لمساعدته في أمور التدبير والتسيير. (محمد عبيد الكبيسي، أحكام الوقف في الشرعة الإسلامية، م، س: 39 ).
وهكذا بات جليا أن كلا من الأمويين والعباسيين، وبحكم اتساع الأوقاف، فإن ذلك أدى إلى إنشاء أجهزة تتولى إدارتها والإشراف عليها، فكان القضاة توكل إليه هذه المهمة، فكانوا يشرفون عليها بأنفسهم ويحاسبون المتولين عليها.
وفي هذا السياق العام، سار سلاطين الدولة العثمانية، فإلى جانب ازدهار مؤسسة الوقف في عصرهم، فقد حرصوا على إحداث أجهزة إدارية لتدبيرها والإشراف عليها، كما أقدموا على إصدار قوانين وأنظمة متعلقة بأحكام الوقف تنظم شؤونه وأمور تدبيره " فمن الأنظمة التي صدرت في العهد العثماني: نظام إدارة الأوقاف الذي نظم كيفية مسك القيود من قبل مديري الأوقاف، وكيفية محاسبة مدير الأوقاف الجديد لمن سبقه، وتعمير وإنشاء المباني على العقارات الخيرية، وكيف يتم تحصيل حاصلات الوقف وغير ذلك من الأحكام المنظمة لأعماله ". (عبد الله بن أحمد الزيد، أهمية الوقف وحكمة مشروعيته، مجلة البحوث الإسلامية، ص: 201 ، الجزء رقم : 6 ، العدد 36، 1413 ه).
وعلى كل، فإن هذه الوقفات التاريخية من حقب زمنية معينة تبقى مجرد كشف يسير جدا لمكانة الأوقاف في المجتمعات الإسلامية، يراد من خلالها إماطة اللتام عن جوهر مكنون، ظل وما يزال يغري الدارسين لسبر أغواره تبعا لتخصصاتهم، فمؤسسة الوقف إذن ليست وقفا في الدراسة على الفقيه الشرعي، بل أيضا على المؤرخ، والقانوني، والاقتصادي وغيرهم.