لاشك أن الوقف قربة وعبادة متميزة، أسهم في تأسيس حضارة مزدهرة على أسس أخلاقية وسلوك ديني إنساني رشيد، وبذلك أدى ولا يزال يؤدي دورا فاعلا في نمو المجتمع وتطوره في مناحي عدة، بحيث لم يقتصر دوره على الجانب الديني فحسب، بل لامس جوانب أخرى، كان له فيها الدور الفاعل والمؤثر في إبراز وكشف خصوصية هذا النوع من التبرع الذي له امتدادات عميقة في مجلات متعددة، سواء أكانت دينية أو اجتماعية أو ثقافية، أو اقتصادية، الأمر الذي يجعل الممحص في هذا النظام يعجب من التنوع الكبير في وظائفه وأدواره .
الوظيفة الدينية للوقف:
يتميز نظام الوقف بميزات تتكشف من خلالها أهميته البالغة في دعم أوجه الخير المتعددة، منها الشق الإيماني العقدي، لاقتناع المؤمن بأن فيه صدقة جارية تنفعه في حياته و بعد مماته .
وبرصد التطور النوعي لنظام الوقف، يعد المسجد أهم الأوقاف التي عني بها المسلمون، فهو أول وقف في الإسلام، لذا كان بديهيا، وعلى مر الحقب والعصور، أن نرى ازديادا هائلا في عدد المساجد في كل بقعة من الديار الإسلامية، باعتباره لبنة أساسية في نشر تعاليم الدين الإسلامي، وملاذا لطالبي العلم.
ووفقا لذلك، قد كان الوقف الديني يسعى دائما إلى تخصيص الأموال الموقوفة لخدمة العبادة في أساسها، والتاريخ الإسلامي الوقفي يكشف لا محالة عن هذه الحقيقة التاريخية، فالبعد الأصلي الذي انبنى عليه الوقف هو التقرب إلى الله تعالى ابتغاء مرضاته.
ومن ثم، فمن بين مظاهر هذا البعد الديني في واقع المسلمين، قيامهم ببناء المساجد وعمارتها، ليتأتى لها أداء وظائفها المختلفة والجمة، ولتصبح منارا لنشر تعاليم الدين الحنيف، ومركزا تعليميا وتربويا، يجمع بين إقامة شعائر الدين الإسلامي، وتفقيه الناس في ما يصلح معاشهم ومعادهم.
ولم يقتصر الدور الديني للوقف على رعاية المساجد والقيمين عليها، بل شمل أيضا تيسير أداء فريضة الحج، وخدمة ضيوف الرحمان طوال رحلتهم، وأثناء أداء مناسكهم، وإلى غاية رجوعهم إلى ديارهم.
الوظيفة الاجتماعية للوقف:
لاشك أن نظام الوقف باعتباره في أصله عطاء و اهتماما بالآخر، له دور اجتماعي كبير، فقد تم توظيف هذا النظام في خدمة الأيتام ورعايتهم بالحرص على تعليمهم وتوفير كسوتهم ومأكلهم ومسكنهم،كما تأكدت نجاعته في حل العديد من المشكلات الاجتماعية، منها رعايته للعجزة والفقراء، عملا بمبدأ "التكافل و التراحم الاجتماعي "،وهو الأمر الذي يذكي روح التضامن و التكافل.
الوظيفة العلمية للوقف:
أسهم الوقف إسهاما بارزا في تحقيق النهضة العلمية للمجتمعات الإسلامية، بما وفره الواقفون من كتاتب قرآنية ومدارس للعلماء و طلاب العلم،وبما قام به الخلفاء المسلمون و الملوك وكذا الأفراد من تشييد المدارس والمعاهد وتوفير المكتبات لتصبح مرتادا و منهلا للدارسين و الباحثين، والتي رعاها الواقفون رعاية كاملة ،وأنفقوا عليها بسخاء كبير .
الوظيفة الاقتصادية للوقف:
لاجدال في أن العلاقة بين الاقتصاد و الوقف علاقة وثيقة ، فكلما زاد التوسع في الوقف و إنشاء المؤسسات الوقفية، إلا و أدى ذلك حتما إلى المزيد من التنمية الاقتصادية.
واعتبارا لذلك فالمضمون الاقتصادي للوقف يمكن أن يعبر عنه بأنه « تحويل لأموال عن الاستهلاك، واستثمار لها في أصول رأسمالية إنتاجية، تنتج المنافع والإيرادات التي تستهلك في المستقبل، جماعيا أو فرديا. فالوقف إذن عملية تجمع بين الادخار والاستثمار معا. فهي تتألف من حجز أموال - كان يمكن للواقف أن يستهلكها إما مباشرة أو بعد تحويلها إلى سلع استهلاكية - عن الاستهلاك الآني، وبنفس الوقت تحويلها إلى استثمار إنتاجي ( أي زيادة في رأس مال المنتج)، يهدف إلى زيادة إنتاج السلع والخدمات في المجتمع.» ( مندر قحف، الدور الاقتصادي لنظام الوقف في تنمية المجتمع، ص: 11 ).
إن الوقف بمختلف أنواعه وأشكاله يعد ثروة استثمارية إنتاجية وتمويلية للعديد من المشاريع والمرافق، كما يعتبر موردا من الموارد المالية التي تصرف في المشاريع الصحية والتعليمية الخيرية وغيرها.
فلا غرو أن تولي الدراسات الاقتصادية الحديثة أهمية بالغة لنظام الوقف، بحكم ما أصبح يرى فيه الاقتصاديون من نظام كفيل بحل كثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، كالبطالة والفقر، ومن ثم فقد ظهرت أساليب تمويلية جديدة تروم تطوير الاستثمار الوقفي مع الحفاظ على خصوصيته، لما ينتج عنه من تحريك و سائل الإنتاج، وتحقيق للتنمية في بعدها الشمولي.